لماذا لا تُحاسب إسرائيل على جرائمها؟

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

احدث الاخبار من خلال موقع الخليج برس , لماذا لا تُحاسب إسرائيل على جرائمها؟, اليوم الجمعة 25 أكتوبر 2024 03:09 مساءً

الجمعة 25/أكتوبر/2024 - 03:02 م 10/25/2024 3:02:20 PM


وصفت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي ـ التي ألقاها خلال قمة (بريكس بلس)، المنعقدة في مدينة قازان بروسيا الاتحادية، بعنوان (البريكس ودول الجنوب، معًا لبناء عالم أفضل) ـ الوضع المحتدم والصراعات التي تحدث حاليًا في الشرق الأوسط، وكيف أنها ألقت بظلالها على الساحة الاقتصادية والسياسية، وتأثيرها بشكل كبير على الدول النامية.. إلا أن أهم ما قاله، في نظري، أنه (لا يمكن أن نتحدث عن الأزمات والتحديات الدولية الراهنة، بدون الحديث عن الأزمة التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، على وقع الحرب الإسرائيلية المستمرة، لما يزيد عن العام، على أبناء الشعب الفلسطينى المُحاصرين بقطاع غزة، والمُحاطين بأشكال القتل والترويع كافة.. وامتداد هذه الاعتداءات إلى الأراضى اللبنانية، مما يُعد أكبر دليل، على ما وصل إليه عالمنا اليوم، والنظام الدولى، من تفريغ للمبادئ وازدواجية للمعايير.. فضلًا عن غياب المحاسبة والعدالة، إزاء الانتهاكات التى تُرتكب فى حق المواثيق الدولية، وقواعد القانون الدولى والإنسانى.. الأمر الذى نتجت عنه كارثة إنسانية غير مسبوقة، واستمرار الحرب وتوسعها.. وهى كلها شواهد تفرض تضافر الجهود الدولية، لوقف التصعيد الخطير فى المنطقة، ومنع انزلاقها إلى حرب شاملة.. وخصوصًا فى ظل امتداد الصراعات بالمنطقة، لتشمل العديد من الدول، وامتداد تلك الصراعات، لتؤثر سلبًا على حركة الملاحة بخليج عدن والبحر الأحمر، وعلى حركة التجارة الدولية، واستقرار سلاسل الإمداد العالمية).. إنتهى.
وهذا يطرح سؤالًا مهمًا: متى تُحاسب إسرائيل على الحرب الظالمة التي تشنها في غزة؟.
كشفت الحرب الانتقامية الإسرائيلية القاسية التي مزقت غزة والضفة الغربية ولبنان، والتي قد تتوسع الآن إلى إيران، عن صدع خطير في مفهوم عالمية حقوق الإنسان.. منذ السابع من أكتوبر 2023، تعلمنا أنه ليست كل الأرواح البشرية مهمة، ولا تخضع جميع البلدان للمساءلة عن أفعالها.. كما يقول الكاتب الأردني، داود كتَّاب.. وقد كان رد فعل العديد من الدول التي تُبشر بحقوق الإنسان وسيادة القانون وحرية التعبير، غير متساوٍ على مقتل واحتجاز المدنيين والمقاتلين الإسرائيليين مقارنة بالشهداء المدنيين والمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين.. ولأن حزب الله يعتبر ـ في نظرهم ـ (جماعة إرهابية)، فإن تفخيخ إسرائيل للهواتف المحمولة وأجهزة الاستدعاء التي يحملها أعضاء الحزب، حصل، إلى حد كبير، على غض الطرف عنها، بالرغم من أن هذه الأجهزة فجرت وجرحت وقتلت مدنيين في المستشفيات ومراكز التسوق في لبنان، في انتهاك واضح للقانون الدولي.. لقد تآكل تعريف (الإرهاب)، بسبب هوية أولئك الذين يقاومون ضد إسرائيل.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة، لاختزال تاريخ الشرق الأوسط في لحظة واحدة، هجمات السابع من أكتوبر، فقد تعلم العالم أن ما حدث للمدنيين الإسرائيليين وقوات الأمن في ذلك اليوم، لا يمكن ولا ينبغي إخراجه من سياقه.. لم يكن هجوم حماس الشرس أكثر وحشية من خمسة وسبعين عامًا من إنكار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، أو سبعة وخمسين عامًا من الاحتلال الإسرائيلي، أو حصار قطاع غزة الذي دام أكثر من سبعة عشر عامًا. 
لقد تم الكشف عن واشنطن وحلفائها بسبب معاييرهم المزدوجة.. من ناحية، يرفضون احتلال أوكرانيا ويفرضون عقوبات صارمة على روسيا، ومن ناحية أخرى، يزودون المحتلين الإسرائيليين بالأسلحة.. عانت غزة من هجوم لا يرحم لعدة أشهر، قبل أن يتم تمرير قرار مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار أخيرًا.. ولم تنفذه إسرائيل بعد.. وتتحمل وسائل الإعلام الدولية أيضًا اللوم.. لقد وقعوا في أكاذيب، كرر بعضها كبار المسئولين الغربيين، والتي قد لا تُمحى بالكامل.. لم يكن هناك أي دليل على قطع رؤوس الأطفال في السابع من أكتوبر، ولم يتم إثبات استخدام حماس لللاعتداءات الجنسية كسلاح، وتنفيذها بشكل منهجي للاغتصاب.. بينما حظيت الهجمات، بما في ذلك الاغتصاب، على المعتقلين الفلسطينيين باهتمام أقل بكثير.. إن الدمار التام للكنائس والمساجد والمدارس والمخابز والمستشفيات في غزة، يتم تجاهله من قبل وسائل الإعلام، لأن إسرائيل تدَّعي أن حماس مغروسة بين المدنيين وأن (لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس)!!.
قلة من أولئك الذين يرددون هذه الكلمات، قد استجابوا لاستنتاج فرانشيسكا ألبانيز، المحامية الدولية ومقررة الأمم المتحدة الخاصة، المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، (لا يمكن لإسرائيل أن تدَّعي حق الدفاع عن النفس ضد تهديد ينبع من أرض تحتلها، من أرض تخضع لاحتلال حربي)، لا يمكن لأحد أن يناقضها في الواقع، على الرغم من أن الكثيرين اتهموها ظلمًا بمعاداة السامية.. وباستثناء حالات نادرة، نجحت إسرائيل في إبعاد المراسلين الدوليين عن غزة، وقتلت هجماتها الكثير من صحفيي فلسطين، مع مائة وثلاثين حالة إضافية، لا تزال قيد التحقيق.. وقال تامر المسحل، مراسل قناة الجزيرة في غزة، في منتدى إعلامي في عمان، بالأردن، في سبتمبر الماضي، إن ضباط المخابرات الإسرائيلية اتصلوا بالصحفيين وهددوهم، إذا استمروا في تغطية الوضع في غزة.. وأغلق الجيش الإسرائيلي مكتب الجزيرة في الضفة الغربية في سبتمبر الماضي.
وبفضل الصحفيين الفلسطينيين الشجعان، الذين ما زالوا على الأرض، فضلًا عن وسائل التواصل الاجتماعي، وتقارير شهود العيان من الأطباء وغيرهم من العاملين في المجال الإنساني، فإن العنف الكارثي الذي يُرتكب ضد غزة، قد اخترق القيود المفروضة على وسائل الإعلام.. لكن الهجمات المستمرة على قرى الضفة الغربية، التي تكاد تكون مُدمِرة، بتشجيع من بعض القادة الإسرائيليين وينفذها مستوطنون مسلحون، لم تلق إلا تغطية أقل بكثير، ولم تَرِد إلا قليلًا.. وذهبت إسرائيل إلى ما هو أبعد، حينما أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، مؤخرًا، أن ستة صحفيين يعملون بشكل نشط مع قناة (الجزيرة) القطرية، هم أعضاء في حركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينية.. وتقول قوات الاحتلال الإسرائيلي، إنه استنادًا إلى معلومات استخباراتية، تم الحصول عليها من قطاع غزة خلال العمليات العسكرية، فإنها تستطيع أن تكشف أن الصحفيين الستة، ينتمون إلى الجناح العسكري لحركة حماس أو الجهاد الإسلامي.. وهو ما نفته الجزيرة ووصفت هذه المزاعم بأنها (لا أساس لها من الصحة ومفبركة)، وأشارت ضمنًا إلى أن إسرائيل تستخدم هذا كغطاء لقتل المزيد من الصحفيين، ومنعًا لتوثيق جرائمها في قطاع غزة.
●●●
هذه الدعوة لمحاسبة إسرائيل على جرائمها، سبق وأن اعتمدها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في الخامس من فبراير الماضي، عندما أصدر قرارًا يطالب بمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها في قطاع غزة.. فجاء تصويت المجلس، وهو الهيئة التي تكرهها إسرائيل، ليُمثِّل لحظة أخرى في النبذ العالمي البطيء لإسرائيل بسبب حربها في غزة، والتي أسفرت حتى الآن عن مقتل ما يُقدر بنحو إثنين وأربعين ألف شخص، ثلثيهم من النساء والأطفال.. وقد صوتت ثمانية وعشرين دولة لصالح القرار، وامتنعت ثلاثة عشر دولة عن التصويت، وصوتت ست دول ضده، بما في ذلك الولايات المتحدة وألمانيا.. وأكد القرار على (ضرورة ضمان المساءلة عن جميع انتهاكات القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، من أجل إنهاء الإفلات من العقاب).. كما أعرب عن (القلق البالغ إزاء التقارير التي تتحدث عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وخروقات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، بما في ذلك جرائم الحرب الحالية والمحتملة والجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة).
●●●
إن جثث الفلسطينيين وبينهم أطفال، عند المستشفى المعمداني الأهلي، بعد هجوم للجيش الإسرائيلي على جباليا، شمال قطاع غزة، وتدمير للمربعات السكنية بالبراميل المتفجرة، وإجبار السكان على النزوج باتحاه الجنوب، جريمة يجب أن يندى لها جبين البشرية، وخصوصًا العالم الغربي، المتشدق بالعدل والحق في حياة كريمة.. ومع هذا، فإن الدنيا لم تخلُ من إنسان يتحدث عن الحق، حتى لو كان في صالح من يُعتبر عدوه.
يحظى عيران عتصيون بثقة لدى أعلى مستويات إسرائيل، بصفته شخصًا أدى خدمته مع أربعة رؤساء وزراء، وكان نائبًا لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي.. ويعد منتقدًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، منذ فترة طويلة، وأكسبته سنوات خدمته العامة احترامًا واسع النطاق.. يحذر عتصيون، الجندي السابق في الجيش الإسرائيلي، من مغبة ارتكاب جرائم حرب في شمال غزة، ويقترح أن يرفض الضباط والجنود الأوامر غير القانونية، (يجب أن يرفضوا.. إذا توقع الجندي أو الضابط ارتكاب فعل قد يُشتبه في أنه جريمة حرب، يجب عليهم الرفض.. هذا ما كنت سأفعله لو كنت جنديًا.. هذا ما أعتقد أنه يجب على أي جندي إسرائيلي فعله)، يقول عتصيون.
تقع منطقة جباليا في غزة، على بعد أقل من أربعين ميلًا، من شرفة منزل عتصيون، حيث نجلس في شوريش بوسط إسرائيل، تحت أشعة شمس هادئة في صباح خريفي في حي هادئ، فيما يعمل بعض البنائين على تحسين المنزل ـ يقول فيرجال كين، مراسل بي بي سي الخاص ـ وأثناء الحديث مع عتصيون، يرسل الأطباء والطاقم الطبي في المستشفى الإندونيسي في جباليا نداءات استغاثة صوتية يائسة إلى المجتمع الدولي، يناشدون فيها الحصول على المساعدة.. وسمعت طبيبًا مسؤولًا تحدث بصوت منهك عن الحرمان المستمر الذي فرضه الإسرائيليين خلال حصار جباليا، (صديقي، أنا متعب جدًا، لا أستطيع أن أشرح كم أنا متعب.. ليس لدينا ماء.. اتصلنا بالقوة الإسرائيلية للسماح لنا بتعبئة المياه في الخزان، لكنهم لا يقبلون ذلك، بل يفجرون تلك الخزانات.. ولا نعرف ماذا سيحدث غدًا.. الوضع سيء للغاية)، يقول الممرض.. ويروي ممرض آخر، (أنا آسف على لغتي، لا أستطيع التحدث بشكل جيد.. أنا متعب للغاية وأشعر بالدوار.. لم أتناول أي طعام منذ يوم أمس.. نحاول تقديم الطعام الذي نجده للمرضى وأسرهم، لكننا لا نُطعم أنفسنا).. يفر عشرات الآلاف الآن من جباليا، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي هجومه على ما يقول، إنه محاولة من حركة حماس لإعادة تجميع الصفوف.
يبدي عتصيون قلقه على المدنيين في جباليا وعلى بلاده.. يقول:، (هناك تآكل خطير للغاية للمعايير.. وهناك شعور واسع النطاق بالانتقام والغضب).. ويُرجع عتصيون الأمر إلى أن إسرائيل ما تزال تعيش في حالة الصدمة بعد هجمات حماس في السابع من أكتوبر، (يمكن فهم الرغبة في الانتقام.. إنهم بشر، لكننا لسنا عصابة، لسنا منظمة إرهابية، ولسنا ميليشيا.. نحن دولة ذات سيادة.. ولدينا تاريخنا، ولدينا أخلاقنا، ولدينا قيمنا، ويجب أن نعمل بموجب القانون الدولي، وبموجب المعايير الدولية، إذا أردنا أن نظل أعضاء في المجتمع الدولي، وهو ما لا نقوم به).. يتحدث عتصيون علانية كجندي سابق، كشخص خدم أولاده في الجيش الإسرائيلي، وما تزال عائلته وأصدقاؤه يخدمون، (أنا مجرد مواطن قلق أحاول رفع صوتي.. لذلك هذا ما أفعله.. أريد أن أحذر من تورط أي جندي في أي شيء يمكن أن يشكل جريمة حرب).. لقد واجهت إسرائيل انتقادات دولية متزايدة بسبب سلوكها خلال الحرب، وهددت الولايات المتحدة بقطع شحنات أسلحة، إذا لم تسمح إسرائيل بتدفق المساعدات إلى غزة.. واتهمت الأمم المتحدة الإسرائيليين بتكرار منع أو عرقلة نقل المساعدات، وكان آخرها إلى شمال غزة، كما اتهمتهم بتنفيذ سياسة تجويع متعمدة لإجبار السكان على الفرار من جباليا.
●●●
وقال أحد أبرز محامي جرائم الحرب في بريطانيا، البروفيسور فيليب ساندز، إن إسرائيل كان لها الحق في الدفاع عن النفس بعد هجمات السابع من أكتوبر، لكنها تنتهك الآن القانون الدولي، (على إسرائيل أن تفي بمتطلبات القانون الإنساني الدولي.. ويجب أن تميز بين المدنيين والأهداف العسكرية)، ويؤكد ساندز، أنه (لا يُسمح لك باستخدام المجاعة كسلاح حرب.. لا يسمح لك بترحيل أو إجلاء أعداد كبيرة من الناس قسرًا).. ويرى المحامي الذي قاد قضية الإبادة الجماعية ضد ميانمار، وقضية إقامة دولة فلسطينية في محكمة العدل الدولية في لاهاي، أنه (من المستحيل رؤية ما يحدث الآن في غزة، ورؤية ما حدث في السابع من أكتوبر، دون القول إن الجرائم شديدة الوضوح).
سُئل ساندز: كيف نُميز بين جريمة الإبادة الجماعية والجرائم الأخرى؟.. وعما إذا كانت الأزمة في غزة تجعله قلقًا بشأن بقاء القانون الدولي؟.
أجاب المحامي الذي حصل كتابه الذي يروي بالتفصيل تجربة عائلته اليهودية مع الهولوكوست (شارع الشرق والغرب: حول أصول الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية) على جائزة (بيلي جيفورد) للأعمال غير الروائية، بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كان له الحق في السعي للحصول على مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتياهو، ووزير الدفاع، يوآف جالنت، وقال (إن القانون الدولي لا يعمل على أرض الواقع بشأن روسيا وأوكرانيا.. ولا يعمل على أرض الواقع بشأن السودان.. ولا يعمل على أرض الواقع فيما يتصل بفلسطين وإسرائيل).. ثم أضاف، (يتعين علينا فقط أن ندرك ذلك.. ولكن هذا ليس سببًا لتمزيق النظام بأكمله.. إذا سألت نفسك ما هو البديل، وهو في الأساس عدم وجود قطع من الورق مكتوب عليها عبارة المعاهدات، فقد عدت إلى الثلاثينيات، وعلى الأقل، ما لدينا الآن هو نظام قواعد يسمح للناس بالوقوف والقول: هذا انتهاك لمعاهدة).
ومن عجب، أن تصدر بيانات بأن (الجيش الإسرائيلي سيواصل التصرف، كما كان يفعل دائمًا، وفقًا للقانون الدولي)!!.. وبينما يقول منسق وحدة تنسيق العمل الحكومي في المناطق، جناح الإغاثة الإنسانية بالجيش الإسرائيلي، إن سياستهم هي تسهيل دخول المساعدات إلى غزة (بلا حدود)!!.. فإن استمرار ظهور مشاهد القتل والدمار والمعاناة الإنسانية في جباليا، فهناك تحدٍ على نطاق واسع لرواية إسرائيل، وفضح علني لكذبها المكشوف.
●●●
ولنكون أكثر وضوحًا في الرد على سؤال: لماذا تفلت إسرائيل من العقاب على جرائم القتل في غزة ولبنان؟.. فالشاهد أن إدامة الأكاذيب الإسرائيلية أمر خطير، ليس فقط لأن قول الحقيقة فضيلة، بل وأيضًا لأن الكلمات تقتل.. والواقع أن التقارير غير النزيهة، قد تنجح في تبرير الإبادة الجماعية، وهذا هو السبب وراء إفلات إسرائيل من العقاب على جرائم القتل التي ترتكبها في غزة ولبنان، كما يقول الدكتور رمزي بارود.
إن الرواية الرسمية للجيش الإسرائيلي، حول سبب استهدافه للمناطق المدنية أثناء القصف المكثف والقاتل لجنوب لبنان في العشرين من سبتمبر الماضي، هي أن اللبنانيين يُخبئون منصات إطلاق صواريخ بعيدة المدى في منازلهم.. وكان هذا التفسير الرسمي يهدف إلى تبرير مقتل 492 شخصًا وجرح 1645 آخرين، في يوم واحد من الغارات الجوية الإسرائيلية.. إن هذا التفسير الجاهز سوف يتكرر طيلة الحرب الإسرائيلية في لبنان، مهما طال أمدها.. والآن تستشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية بهذه الادعاءات، وكما هي العادة، تردد وسائل الإعلام الأمريكية والغربية نفس الرواية.. ضع هذا في اعتبارك، وأنت تتأمل التصريحات السابقة التي أدلى بها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج، في الثالث عشر من أكتوبر الماضي، عندما زعم أن غزة لا يوجد بها مدنيون، وأن (هناك أمة بأكملها مسئولة عن أحداث السابع من أكتوبر).. وهذا ما تفعله إسرائيل في كل حرب تشنها ضد الفلسطينيين أو أي دولة عربية.. وبدلًا من إبعاد المدنيين والبنى التحتية المدنية عن بنك أهدافها، فإنها تعمل على الفور على تحويل السكان المدنيين إلى الأهداف الرئيسية لقنابلها.
إن نظرة سريعة على عدد المدنيين الذين قُتلوا في الحرب الدائرة والإبادة الجماعية في غزة، كافية لإثبات أن إسرائيل تستهدف الناس العاديين كأمر طبيعي.. فوفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة، يشكل الأطفال والنساء النسبة الأكبر من ضحايا الحرب بنسبة 69%.. وإذا أضفنا إلى ذلك عدد الذكور البالغين الذين قتلوا ـ بما في ذلك الأطباء وغيرهم من العاملين في المجال الطبي، وعمال الدفاع المدني، والعديد من الفئات الأخرى ـ فسوف يتضح لنا أن الغالبية العظمى من ضحايا وحشية إسرائيل في غزة كانوا من المدنيين.. ولا تزال وسائل الإعلام الإسرائيلية، وحلفاؤها في الغرب، هي الوحيدة التي تواصل إيجاد المبررات لقتل المدنيين الفلسطينيين، والآن اللبنانيين، بأعداد كبيرة.
ولنقارن بين التصريحين التاليين، ـ اللذين حظيا بقدر كبير من الاهتمام في وسائل الإعلام ـ اللذين أدلى بهما المتحدث العسكري الإسرائيلي، دانييل هاجاري، بشأن غزة ولبنان، يقول في الخامس والعشرين من مارس الماضي، (تستخدم حماس المستشفيات بشكل منهجي، لشن الحرب وتستخدم باستمرار سكان غزة كدروع بشرية)، ثم ادعى في السابع والعشرين من سبتمبر، أن (مقر الإرهاب التابع لحزب الله بُني عمدًا تحت المباني السكنية في قلب بيروت، كجزء من استراتيجية حزب الله في استخدام الدروع البشرية).. بالنسبة لأولئك الذين يمنحون هاجاري وغيره من المتحدثين الإسرائيليين ـ بشكل روتيني ـ فرصة الشك، فما عليهم إلا مراجعة ما حدث في غزة في العام الماضي.. على سبيل المثال، ادعت إسرائيل أن المذبحة في مستشفى المعمدان الأهلي لم تكن من صنعها، وأن صاروخًا فلسطينيًا هو الذي قتل ما يقرب من خمسمائة لاجئ نازح، وجرح مئات آخرين في السابع عشر من أكتوبر الماضي.. خلصت جميع الأدلة، بما في ذلك التحقيقات التي أجرتها جماعات حقوقية تحظى بالاحترام، إلى العكس.. ومع ذلك، لا تزال الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة تُهيمن على عناوين وسائل الإعلام.
لقد تكررت حادثة المستشفى المعمداني مع أكاذيب أخرى في مناسبات عديدة.. والواقع أن الأكاذيب بدأت في السابع من أكتوبر، وليس السابع عشر من أكتوبر، عندما ادعت إسرائيل قطع رؤوس الأطفال والاغتصاب الجماعي.. ورغم أن الكثير من هذه الادعاءات ثبت بالدليل القاطع خطأها، فإن بعض وسائل الإعلام، والمسئولين المؤيدين لإسرائيل، ما زالوا يتحدثون عنها وكأنها حقيقة مؤكدة.. وعلاوة على ذلك، ورغم أنه لم يتم العثور على أي مقر لحماس تحت مستشفى الشفاء، فإن الادعاءات الإسرائيلية التي لا أساس لها من الصحة استمرت في الترديد، وكأنها الحقيقة الكاملة، وبالتالي بررت الموت والدمار في المرفق الطبي الرئيسي في غزة.. والآن يتم تطبيق المنطق نفسه على لبنان، حيث تزعم إسرائيل أنها لا تستهدف المدنيين، وعندما يُقتل المدنيون، فإن اللبنانيين أنفسهم هم الذين يجب أن يتحملوا اللوم على استخدام المدنيين كدروع بشرية.
بطبيعة الحال، يشارك كثيرون في هذه اللعبة، ليس لأنهم غير عقلانيين أو غير قادرين على التوصل إلى استنتاجات سليمة، استنادًا إلى الأدلة الواضحة.. بل لأنهم سعداء بكونهم جزءًا من الرواية الإسرائيلية، وليسوا رواة قصص محايدين أو صحفيين صادقين.. إن إسرائيل تفلت من العقاب على أكاذيبها المتعلقة بالقتل الجماعي في غزة، والآن في لبنان، لأن الدعاية الإسرائيلية تلقى ترحيبًا، بل ويقبلها المسئولون والصحفيون الغربيون.. وعلى هذا، فعندما وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، الغارات الجوية التي شُنت على لبنان في العشرين من سبتمبر بأنها (حققت العدالة)، كان يوجه رسالة إلى وسائل الإعلام الرئيسية مفادها، أن تغطيتها للأحداث لابد وأن تظل ملتزمة بهذا التقييم الرسمي.
ولنتخيل الغضب الذي قد ينشأ لو انقلبت الأمور، وقُتِل مدنيون إسرائيليون في منازلهم بفعل القنابل اللبنانية.. لن تكون هناك حاجة إلى تفسير ردود أفعال وسائل الإعلام الأمريكية أو الغربية، لأنها ستكون واضحة لأي شخص ينتبه إلى ما يجري.. إن لبنان دولة عربية ذات سيادة، وغزة أرض محتلة، وشعبها محمي بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.. إن حياة اللبنانيين والفلسطينيين، في نظر المنحازون إلى إسرائيل، لا قيمة لها، ولا ينبغي السماح بإدانة وقوع جرائم القتل الجماعية ضدهم لأي سبب من الأسباب، وخصوصًا استنادًا إلى الأكاذيب التي يروجها المتحدث العسكري الإسرائيلي وترددها وسائل الإعلام المتواطئة.
●●●
ونعود إلى قمة البريكس، المنتدى الذي اكتسى بطابع عربي وشرق أوسطي، مع انضمام مصر والسعودية والإمارات إليه مطلع السنة الحالية، وهو ما أضاف أسبابًا لانعكاس زلزال غزة، وحرب لبنان، والتوتر المتصاعد بين إسرائيل وإيران، على أجندته.. وجاء تأكيد الرئيس السيسي، على أن النظام الدولي يعاني من ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمات العالمية، وخصوصًا فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة التي تُرتكب في غزة ولبنان، وإثارته قضية غياب المحاسبة والعدالة فيما يرتكب من جرائم في قطاع غزة ولبنان، حيث تتعرض البنية التحتية والمناطق السكنية لقصف مستمر دون محاسبة دولية فعلية، وهو ما يعكس موقف مصر الثابت من القضية الفلسطينية، والدعوة المستمرة لحل الدولتين واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.. لذا، فقد نص بيان القمة على دعم قبول دولة فلسطينية كعضو كامل في الأمم المتحدة، التزامًا مع حل الدولتين، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية، التي تنص جميعها على إنشاء دولة فلسطين، ذات السيادة والمستقلة والقابلة للحياة، بما يتوافق مع حدود الرابع من يونيو 1967 المعترف بها دوليًا، وعاصمتها القدس الشرقية.. وكان مهمًا أيضًا تضمين البيان تحديدات أكثر من العموميات المعروفة، وذلك بقوله حرفيًا، (إننا ندين الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف العمليات الإنسانية والبنية التحتية والموظفين ونقاط توزيع المساعدات الإنسانية)، كما (نرحب بجهود مصر وقطر، والجهود الإقليمية والدولية الأخرى الرامية إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتسريع إمدادات المساعدة الإنسانية وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة).
إن مضمون البيان يكتسب أهمية مضافة، مع ملاحظة كيف توافقت عليه دول متباعدة اقتصاديًا وسياسيًا، كما هو حال الهند، التي ذكرها بنيامين نتنياهو، باعتبارها نقطة تجارة رئيسية في (خط النعمة) بين تل أبيب وعبر الخليج العربي، وكما هو الحال مع الصين، الطامحة لمشروع منافس ضمن (خط الحرير) المار بآسيا ودول عربية وصولًا إلى أوروبا.. ويمكن الزعم، بأن القضايا الاقتصادية والسياسية الأخرى التي ناقشتها القمة، ترتبط أيضًا بقضايا الشرق الأوسط، التي تفاعلت مع زلزال غزة، بدءًا من العنوان الرئيسي للاجتماع، (بريكس والجنوب العالمي، لبناء عالم أفضل) بشكل مشترك، ومرورًا بقضايا الأمن الغذائي والطاقة، وكذلك قضية إيجاد بدائل للدولار.
إن (التراجيديا الفلسطينية حاضرة في كل هذه القضايا، سواء تعلق الأمر بالتجويع المنظم الذي تقوم به إسرائيل ضد شمال غزة حاليًا، وبمنع المساعدات الإنسانية والغذائية على كامل القطاع، أو تعلق بالعقوبات الاقتصادية والجزاءات المالية التي تفرضها إسرائيل على السلطة الفلسطينية.. الحرب الجارية في الشرق الأوسط ترتبط بكل ما يجري على كوكب الأرض، والحديث المتزايد عن (إعادة تشكيل الشرق الأوسط)، يعني، في ما يعنيه، إعادة تشكيل العالم.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق