بين محورَيْ الاعتدال والمقاومة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

دقت زيارة الرئيس أنور السادات للقدس عام 1977، أول مسمار لتفريق الوطن العربي إلى عدة جبهات، كان أبرزها جبهة "الصمود والتصدي"، وهي الجبهة التي وقفت ضد الزيارة التي مهدّت للهرولة إلى تلك "الدولة" فيما بعد؛ ضمّت الجبهة دولًا عربية أساسية مهمة (في ذلك الوقت)، مثل سوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وعقدت أوّل قمة لها في طرابلس الغرب بليبيا في شهر ديسمبر 1977، وقررت تجميد عضوية مصر في جامعة الدّول العربيّة، وهو ما تحقق فيما بعد في قمة بغداد عام 1978، ونتج عن ذلك نقل مقر الجامعة من القاهرة إلى العاصمة التونسيّة. كان من أدبيات الجبهة، رفض نهج الرئيس السادات، واعتبار اتفاقية كامب ديفيد عملية استسلام من قبل النظام المصري للعدو الصهيوني، وضربة للتضامن العربي والنضال الفلسطيني.

في المجمل لقيت شعارات تلك الجبهة قبولًا لدى الشارع العربي، الذي كان قريب عهد بشعارات ومصطلحات مثل، العدو الصهيوني، والأمة العربية الواحدة، والوحدة العربية، والمصير المشترك، والقضية الفلسطينية قضية الأمة؛ غير أنّ الجبهة لم تدم طويلًا ولم تستطع أن تتصدّى للكيان الإسرائيلي، فانهارت عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، وقرار الرئيس العراقي صدام حسين شنّ الحرب عليها عام 1980.

وبما أنّ إسرائيل ضمنت الجبهة المصرية، فقد أقدمت عام 1981 على ضرب مفاعل تموز النووي العراقي، وفي العام التالي غزت لبنان، وقضت رسميًّا على منظمة التحرير الفلسطينية، التي أضحت فيما بعد مثل خيال المآته فقط، حتى وصل بها الحال إلى أوسلو، ثم ضغطت إسرائيل عسكريًّا على جنوب لبنان لإحراج سوريا منها.

المتأمل لمصير دول الصمود والتصدي، يعلم يقينًا أنها دفعت ثمنًا غاليًا لمواقفها؛ فحالةُ سوريا وليبيا يعرفها القاصي والداني، وما جرى للعراق معروف أيضًا للجميع، واليمن ليس أحسن حالًا؛ أما الجزائر فقد دفعت الثمن غاليًا فيما عُرف بالعشرية السوداء، بسبب الصراع الداخلي الذي بدأ عام 1992 واستمر عقدًا كاملًا استنزف الكثير، وكأنّ الرسالة الموجهة لمحور المقاومة والممانعة هي أنّ "هذا هو المصير الذي ينتظركم"، وهي الرسالة نفسها التي توجه الآن للمقاومة الفلسطينية واللبنانية.

وإذا كانت جبهة الصمود والتصدي لم تدم طويلًا، إلا أنه تمخض عنها فيما بعد محور المقاومة، وهو محور يقابل ما يُعرف بمحور الاعتدال الذي ضمّ دولًا كبيرة وغنية، تتبع غالبًا الفلك الأمريكي، وتهدف إلى إقامة علاقات ودية مع إسرائيل، وترى أنّ القضية الفلسطينية طالت أكثر ممّا يجب، وأنّ الوقت قد حان لإقامة علاقات سلمية بين الطرفين تحت زعم أنّ السلام سيؤدي إلى مزيد من التنمية في البلدان العربية، وهي في الواقع كذبة أطلقها منظّرو الاعتدال الذين سوّقوا للشارع العربي مفهومًا جديدًا، حسب التوجهات الأمريكية والإسرائيلية، هو أنّ إيران العدو وليس إسرائيل.

من المفارقات العجيبة أنّ "محور الاعتدال" يضمّ معظم الدول العربية، مقابل "محور المقاومة"، الذي تأتي على رأسه إيران؛ ومن أهم أهداف المحور الأخير، معارضة الهيمنة الإسرائيلية والنفوذ الأمريكي في المنطقة؛ ويضم حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة وميليشيات الحشد الشعبي في العراق وجماعة أنصار الله في اليمن، إضافة إلى سوريا. ويعود استخدام مصطلح "محور المقاومة" للراحل حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، وقد تبلور المحور من دون وجود اتفاق هيكلي أو اتحاد شكلي أو بنية تنظيمية مؤسَّساتية بحسب قناة "الميادين" اللبنانية. ومن الطبيعي أن تتعارض أهداف محور المقاومة مع محور الاعتدال ومع التوجهات الأمريكية والغربية في المنطقة. ومن هنا لا نستغرب أن تدعو بعض الأصوات الإسرائيلية إلى دعم محور الاعتدال؛ ففي مقال نشره في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في الرابع عشر من يوليو 2024، دعا يهود باراك رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، إلى الموافقة "المشروطة" على المبادرة الأمريكية لإنشاء ما يُسمى "محور الاعتدال" تحت قيادة الولايات المتحدة؛ ووصف المحور أنه "الرادع الأكثر فعالية" ضد حرب إقليمية شاملة في أيِّ مستقبل منظور، وهو "الإطار الصحيح" لضمان النصر عند نشوب حرب من هذا القبيل حسب قوله. ويشكّل محور الاعتدال - بحسب باراك - الرد الصحيح على الوضع الراهن، "حيث لا تزال إيران، رغم تقدّمها السريع، مترددة في تطوير قدراتها النووية العسكرية". ولستُ أدري هل الولايات المتحدة تحتاج إلى دعوة لإنشاء محور اعتدال؟ فالمحور قائم أساسًا، ولا تنطبق عليه كلمة "اعتدال"، وإنما هي كلمة مخففة عن الاستسلام والخضوع، والسماح للكيان الإسرائيلي أن يسرح ويمرح في طول الوطن العربي وعرضه.

لكي يعلم الإنسان صحة موقفه من أيِّ قضية، يجب عليه أن يقيسه بالموقف الإسرائيلي، وما هو موقف الغرب منه؟ فمن تراه إسرائيل وأمريكا صديقًا، فيجب الحذر منه، ومن تراه عدوًّا فهو على الخط المستقيم؛ وعليه يمكننا أن نحكم - بكلِّ بساطة - على محورَيْ المقاومة والاعتدال، بعيدًا عن التنظيرات وبعيدًا عن دعوات يهود باراك؛ فعملية طوفان الأقصى عرّت محور الاعتدال، وفرملت هرولة التطبيع - وإن كان مؤقتا - وأظهرت بما لا يدع مجالًا للشك، أنه لا يمكن إنكار فضل إيران ومساندتها لمحور المقاومة؛ لذا فإنّ كثيرًا من الأبواق تتحدّث عن عمالة إيران لكنها لا ترى عمالة دول وقفت علنًا مع الكيان الصهيوني وأقامت قواعد غربية على أراضيها وتعاونت علنًا ضد طوفان الأقصى والفلسطينيين. والمؤلم أن يشمت بعض ضعفاء النفوس في استشهاد الشيخ إسماعيل هنية وحسن نصر الله، لأنّ إيران دعمت حماس وحزب الله، فأين كانوا هم أساسًا من دعم المقاومة؟!

لقد وقفت جبهة الصمود والتصدي ضد التغلغل الصهيوني في المنطقة، وهو ما يفعله محور المقاومة الآن، وإن كانت الكفة ترجح ظاهريًّا أحيانًا لصالح ما يسمى بمحور الاعتدال، بعدما أصيبت حركات المقاومة في مقتل، فليس معنى هذا أنّ هذا المحور على حق؛ فهو مجرد أداة تنفيذية لمخططات أكبر. وإذا كانت الأيام دولًا، فإنّ الأيام دارت لتبتعد الدول الرئيسية في المنطقة لصالح دول لا تملك غير المال، ولكن السؤال المطروح: هل سيدوم ذلك؟! وما هو المردود الذي سيعود للأمة من جراء سيادة "محول الاعتدال"؟! وهل ستستفيق هذه الدول قبل أن يأتي دورُها؟! ومن أصدق ما قرأت في هذا الشأن: "إذا انتهى الذئب من فريسته التي تقاوم.. ستصبح وليمتُه القادمة الخِراف التي شاهدت العرض"؛ فالعبارة تصف بدقة الواقع الحاصل الآن، وعندها سيقول لسان الحال: "أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض". والله المستعان.

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق