ابريل

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الثلاثاء 15/أكتوبر/2024 - 04:07 م 10/15/2024 4:07:50 PM

 

هو عنوان الفيلم الجورجي الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية ( فينيسيا ) لعام ٢٠٢٤ 
و عنوان الفيلم يذكرني بأبيات شعرية نسجها الشاعر الكبير ( تي اس إليوت ) عن شهر ( إبريل ) المبشر بالربيع وبالحياة والذي يكون مؤلمًا في نفس الوقت لأناس محرومين من ذلك الربيع وتلك الحياة.
فيقول ( إليوت ) في احدى قصائده 
«أبريل أقسى الشهور، يخرج
الليلك من الأرض الميتة، مازجًا
الذكرى بالرغبة، ومحركًا
الجذور الخاملة بمطر الربيع»
و تعبر تلك الابيات عن وضعية الحياة التي يعيشها أهل الريف في جورجيا كما صورتها مخرجة العمل فجورجيا تلك الارض التي أنهكتها الحروب وخلفت في الروح جروح وقساوة انعكست على طبائع الناس وحيواتها وكانت  النساء  هن الاكثر عرضة لتلك القساوة..  فالارض الميتة حقًا لا يمكن لها ان تنجب شيئًا حيًا.. وهذا ما عبر عنه الفيلم الذي تناول قضية ( الاجهاض ) المجرم في الريف الجورجي وفقًا للعادات والتقاليد.. فيختلس من يظمأ للرغبة لحظات تكون المرأة فيها دومًا هي المسئولة مسئولية تامة عن ما حدث وتتحمل وحدها العبء والحمل الذي يثقل كاهلها وتتحمل الأوزار وحدها.. بل وعليها ان تعالج الامر بطرق خارجة عن القانون الذي لا يرى في الاجهاض رحمةً او حياة -او على اقدر تقدير - لا يراه شرًا لابد منه ليدفع به الشرور المترتبة حتمًا على ذلك الحمل المحرم 
فالموت دومًا ما يحدق بالفتيات اللاتي يقدمن على التخلص من الحمل غير المخطط له وغير المرغوب فيه وان انقذن من الموت أثناء ذلك يقتلن على يد من يرى الاجهاض جريمة ومن يرى الرغبة جريمة ومن يرى حياة الفتيات جريمة ويختزل دورهن فقط في انجاب الاطفال حتى وان كن هن ذواتهن اطفالا وانجابهن في ذلك السن غير القانوني جريمة يجب على القانون التصدي لها قبل ان يتصدى للاجهاض 
فجميع الفتيات اللاتي ظهرن او لم يظهرن في فيلم ( ابريل ) كن دون السن القانوني وتحت سن العشرين ولذلك وبشكل قصدي عمدت المخرجة على استخدام اللقطات المقربة لاجساد الفتيات اللاتي يقمن بتلك العمليات دون إظهار وجوههن.. فوجوههن محظورة تماما كحملهن وكإجهاضهن.. ففي ريف جورجيا كل شيء محظور ! بل ان الحياة في ذاتها محظورة لذلك كان الحرص على اخفاء وجوه الفتيات والتركيز على اجسادهن النحيلة الهزيلة في هذا السن الصغير والتي انهكها انتهاكها بكل السبل وكان ملاذهن الوحيد في تلك البلدة الريفية النائية هي تلك الطبيبة الجورجية التي نضجت في العمر وفي الخبرة وأحبت الحياة على العكس تماما ممن كانوا يرونها فاجرة قاتلة للأجنة ومجرمة تمارس فعل الاجهاض المجرّم ناسين ان الحب والرغبة وكل ما له علاقة بالحياة والحمل هو ايضا مجرمًا في ذلك المجتمع القاسي والذي يفرط في قسوته على الفتيات الصغيرات اللاتي حتمًا يكون الموت مصيرهن ان لم تنقذهن تلك الطبيبة والتي رغم كل محاولاتها ومساعداتها المجانية للفتيات اللاتي حملن -دون السن القانوني - في التخلص من ذلك الحمل غير المرغوب فيه.. وكل ما قامت به طوال احداث الفيلم تنهار تماما عندما تعلم ان احدى الفتيات التي قامت بإنقاذها من حملها غير المرغوب فيه وأبقت في نفس الوقت على حياتها  .. أرسلها زوج شقيقتها الكبرى للموت في شهر ( إبريل ) بالضرب المبرح كي يخلص هو من عارها بعد ان علم بحملها ! ورغم اسقاطها لذلك الحمل الذي اصبح ماضيا وفي خبر كان وانتهى امره في الواقع ولكن الامر بالنسبة لزوج الاخت القاتل كان غير ذلك فقتل زهرة الربيع (الفتاة الصغيرة) في شهر الربيع شهر (ابريل ) الذي تتفتح وتتفتق فيه الزهور في مدن أقل قسوة من تلك القرية..و يبدأ الفيلم بتتر نسمع فيه اصوات لفتيات صغيرات يلعبن ويلهون وكانت احدى تلك الفتيات هي الطبيبة الجورجية التي فقدت شقيقتها في الصغر فذاقت مرارة الفقد والموت والحرمان من توأمها التي غيبها الموت ثم يبدأ الفيلم بعد مرور سنوات بمشهد طويل لولادة حقيقية رأيناها جميعا على الشاشة بكل تفاصيلها وما تعانيه النساء في تلك اللحظات الوجودية التي تمر عليهن كالدهور فالالم الذي تتكبده الفتيات اثناء الوضع لا يعرفه الا من مر به -او على الاقل - من شاهده بتفاصيله الطويلة كما شاهدناه نحن في ذلك المشهد الطويل الحقيقي والواقعي غير التمثيلي والذي استمر لاكثر من خمس دقائق ليخرج الجنين ميتًا من رحم الفتاة الصغيرة التي تلحق هي ايضا بجنينها ويغيب الموت كلاهما (الام والجنين ) تماما كما تحدث ( إليوت ) قائلا ( يخرج الليك من الارض الميتة ) ! فالارض الميتة هي الفتيات اللاتي يحملن ليمتن ! والليلك هنا هو الجنين ! وبعد موت الفتاة أثناء عملية الولادة يطلب زوجها  التحقيق مع الطبيبة التي أشرفت على الولادة متهمًا اياها بالتقصير وانها لم تبذل الجهد الكافي لانقاذ الجنين والام وبمراجعة الملفات نكتشف بان الفتاة لم تكن تتابع حملها وان الجنين مات بالفعل في أحشائها مما تسبب في تسممها ووفاتها وهنا تلمح الطبيبة بخبرتها وترد أثناء التحقيق قائلةً بان الفتاة الصغيرة لم تكن ترغب في ذلك الحمل لذلك لم تهتم بمتابعته وانها كانت لديها الرغبة في التخلص منه فينهال عليها الزوج باللعنات والاتهامات وعندما ينصرف الجميع يقوم بالبزق عليها قائلا لها انه يعرف الكثير عن تاريخها القذر مع عمليات الاجهاض المستترة في قرى جورجيا ناعتًا اياها بالقاتلة وهي من كانت تحاول انقاذ الفتيات من موت محقق واكيد بسبب قضايا الثأر او بسبب الحمل في سن صغيرة لا يتحمله جسد الفتيات الهزيل في الاغلب.. وجاءتها في أحد المرات فتاة تزوجت في ال ١٣ من عمرها من مراهق عمره ١٥ عاما وفي الخفاء -ايضا - منحتها الطبيبة حبوب لمنع الحمل والتي هي كذلك مجرمة في تلك القرى الريفية التي لا ترى وظيفة للفتيات سوى الحمل وانجاب الاطفال حتى وان كن هن ذواتهن اطفالًا ! وفي ذلك المشهد وفي مشهد الولادة الطبيعية رأينا وجه الفتاتين اما من كن يقمن بالاجهاض فوجوههن كانت مستترة ومخبأة  تماما كالعملية التي تتم في الخفاء.. فالتركيز  كان على نص الفتيات السفلي.. ذلك النصف المعني به الرجال في المقام الاول ! وجوه الفتيات وارواحهن لا تعني شيئا لذلك المجتمع الذكوري فقط النصف السفلي من جسد الفتاة هو المهم وهو الذي يتم استخدامه لإمتاع الرجل ويتم استخدامه للانجاب فقط ! 
موضوع الفيلم ليس جديدا وطرح في افلام وبلدان عدة ولكن الجديد في الفيلم هو الاجواء التي يدور فيها الفيلم والذي عمدت مخرجته على جعله كاحلًا متشحًا بالسواد في ٩٠ بالمئة من مشاهده فالتصوير ومشاهد الفيلم كانت جميعها تقريبا مشاهد ليلية تناسب الطبيعة السرية لعمل الطبيبة التي تساعد الفتيات على التخلص من الحمل غير المرغوب فيه في الخفاء وليس في وضح النهار تماما كما حملت الفتيات كذلك في الخفاء ولم يمارسن فعل الحب (المجرم ) في وضح النهار بل دوما ما كان يمارس الحب في الخفاء.. بل كان كل  ما يحدث في القرى والنجوع الجورجية يحدث في الخفاء.. ولا شيئًا جميلًا يحدث هنالك في العلن او في وضح النهار 
و بالطبع كانت اجواء الفيلم ومشاهده الطويلة وايقاعه البطىء يشبه كثيرا سينما اوروبا الشرقية ويذكرنا بالفيلم العظيم الذي تناول ذات الموضوع ( الاجهاض ) في رومانيا من خلال الفيلم الروماني العظيم ( ٤ اشهر و٣ اسابيع ويومين ) والذي حصل على سعفة كان الذهبية في عام ٢٠٠٧ لمخرجة الروماني ( كريستيان مونغيو) وكذلك الفيلم الفرنسي ( happening) والذي حصل ايضا كالفيلم الجورجي على جائزة لجنة التحكيم الخاصة ولكن في مهرجان كان السينمائي عام ٢٠٢٢ 
و كان يتحدث ايضا عن الاجهاض الذي كان مجرمًا في فرنسا في الاربعينيات من القرن الماضي وتناول قصة حقيقية لطالبة جامعية كانت تدرس ( الادب الفرنسي ) و(الفلسفة ) في احدى الجامعات الباريسية العريقة والمرموقة ورغم ذلك لم تفلح فلسفة ومبادىء ( فولتير ) و( جان بول سارتر ) في إنقاذها آنذاك وهم مؤسسي وواضعي مبادىء الليبرالية ليس فقط في فرنسا بل في الغرب كله وعلموا العالم أجمع تلك المبادىء التي انتشرت بسبب كتاباتهم وكذلك فلسفة ( جان جاك روسو ) ونظريته ونظرته للعقد الاجتماعي وتنظيم العلاقة بين المواطن والسلطة.. ومرت الفتاة الباريسية ايضا في سن صغيرة بتجربة الحمل غير المرغوب فيه وغير المخطط له وأظهر الفيلم معاناتها للتخلص من ذلك الحمل في ظل قانون يجرم الاجهاض ويعرض من تمارسه للسجن هي ومن يساعدها من الاطباء ! واذكر جيدًا العبارة التي وصفت بها بطلة العمل (المأخوذ عن قصة حقيقية )
( حملها ) عندما سألها استاذها في الجامعة عن سبب تغيبها عن دروسها وعدم حضورها للمحاضرات وهل هي مريضة وما طبيعة مرضها الذي أعاقها عن الحضور ؟ فجاء ردها بأنها مريضة بالمرض ( الذي يصيب النساء ويعزلهن عن المجتمع وعن الدراسة وعن الحياة ويحولهن لرباب بيوت ) 
هكذا وصفت الفتاة الفرنسية في الاربعينيات من القرن الماضي حملها غير المرغوب فيه ! ورغم تقدم الحياة وتخلص الغرب الاوروبي من تلك القوانين المقيدة للحريات ظلت اوروبا الشرقية وبلد مثل جورجيا يعاني حتى الان من ذات المشكلة واعتبار الاجهاض جريمة اما الزواج المبكر للقاصرات فيرونه شيئًا عاديًا وطبيعيًا غير مجرم ولا يعاقب عليه القانون !! ذلك القانون الاعور المعيب الذي يرى بعين واحدة فيرى دوما نصف الحقيقة ويرى وجهة النظر الاحادية التي تجرم الاجهاض دون ان تجد حلا جذريا للزواج المبكر او قضايا الثأر التي ترسل الفتيات للموت ان افتضح امر حملهن وبالتالي يكون الاجهاض هو ملاذهن الوحيد..و إن نجت الفتيات من الموت المحقق بسبب الاجهاض وهو شر لابد منه وكتب على الفتيات كرهًا لهن  لينقذن من ثأر الذكور القساة.. ها هي الفتاة ذات ال١٦ عاما تقتل على يد قاتل يظن انه يقدم خدمة لقريته وعاداتهم وتقاليدهم بل وانه يقدم خدمة للاله بقتله للفتاة الصغيرة التي لم يترك لها الحق في الحياة بعد ان نجت من خطورة الاجهاض والحمل ( ذنبها وحدها ) ! والذي تتحمله وحدها رغم انه لم يكن من صنيعتها وحدها ! ورغم انها وحدها تحملت خطورة التخلص منه يتم التخلص منها هي والتضحية بها هي !! من اجل موروثات وتابوهات لوثت واقع القرى كما رأينا في جورجيا وفي بلاد الشرق الاوسط او الاقصى او الادنى فالكل في الهم شرق ! 
و الاجهاض الذي كان حلا بغيضًا  لاستمرار حياة من تقدم عليه صار أيضًا سببًا في موتها ! فالجهل والقساوة حتمًا تقتلع الزهور في موسم الربيع وتقتل الفتيات في عمر الزهور وفي الشهر الذي تزهر فيه الزهور شهر ( ابريل ) الاكثر قسوة وايلامًا لمن يعيشون في الشرق.. ففي الشرق لا مكانًا للربيع ولا تتفتح في الربيع البراعم او الزهور (فابريل الشرق)  لا تزهر فيه الزهور بل تقتلع وتموت حتمًا !

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق